حصار
ولاية الفقيه بين التخندق التركي والسعودي
قراءة
للأحداث الجارية بعد زيارة المالكي الأخيرة لطهران
خاص
مشروع القادسية الثالثة
تتسارع
الأحداث في العراق على نحو خطير بعد انسحاب القوات الأمريكية مهانة بجهود المقاومة
العراقية الباسلة، فقبيل خروجها أعلنت إيران عبر رئيسها أحمدي نجاد بأنها مستعدة
لملأ الفراغ الذي ستتركه أمريكا . هذا التصريح لم يأت بدافع الحرص على أمن العراق
الذي يعاني منذ اليوم الأول للغزو من استمرار العنف بكل أشكاله حتى أصبح الأول في
العالم من حيث الخطورة، بل جاء تأكيداً على الهيمنة الإيرانية على العراق بشكل
أكبر مما كانت عليه أمريكا، فقد تركت إيران مرغمة لتستكمل خطط توسعها وهيمنتها على
المنطقة بعد أن نفذت أول مرحلة وأهمها في العراق القاعدة لانطلاقه، والذي ما كان
لها أن تحققه إلا بمعونة كبيرة وقوة تسلح تمتاز بها أمريكا مع نفوذها الذي لا يخفى
على الهيئات الدولية . هذا التعاون الذي لم يعد سراً كشفته إعلامياً تصريحات وزير
الخارجية الأسبق محمد علي أبطحي
وكرره الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في فترة الانتخابات الثانية عام 2009م . إن
حقيقة هيمنة إيران على الحكم في العراق والتهديد الذي تتعرض له ولاية الفقيه بعد
الثورة المندلعة في سوريا المعقل الهام لها منذ أكثر من ثلاثة عقود هو الذي يغير
من تصريحات ساسة إيران إلى درجات أكثر حدة ووضوح، فقد رُسخت هوية إيران الحقيقية بتصريحات
سفيريها في العراق من قبل قائد فيلق القدس السابق ( قاسم سليماني ) بأن العراق
وجنوب لبنان خاضع للسيطرة الإيرانية ويمثل توجهها وأفكارها، وقد تم تأكيد ذلك أيضاً
من قبل سفيرها الحالي ( دناني فر) مما أثار موجة من
الرفض المتباين في طبيعته بين الساسة في العراق، وكذلك أُكد على مفهوم الخضوع
للنفوذ الإيراني التصريح الذي أدلاه نائب الرئيس الإيراني الأسبق في
لقائه مع وزير النفط العراقي مؤخراً في طهران بأن ( الكل يعلم أن إيران والعراق
جسد واحد ) وإن حاول البعض نفي ذلك ، حيث غُيرت
هذه التصريحات المتتالية صفة التعاون الإيراني الأمريكي من حليف عسكري إلى وجود
دائم بصفة احتلال حقيقي ، وهذا ما كشفته عدة شواهد منها:
*
اشتراك عناصر إيرانية في الجيش والشرطة .
*التدخل
المباشر لإيران في الشؤون الداخلية عبر سفارتها في العراق حيث أعلنت إيران فرض
سيطرتها على السيادة العراقية وخضوع الحكومة لأجندات الدولة الصفوية ، كما قد نشرت
وسائل الإعلام مؤخراً بعد عودة المالكي من إيران ما يدل على تطور وضع العراق بوصفه
"معسكر واحد مع إيران" ، وهذا نص الخبر الذي نشرته العربية يوم الأربعاء
25/4/2012 : دعا النائب الأول للرئيس الإيراني
محمد رضا رحيمي، خلال استقباله المالكي في طهران أمس، الى "اتحاد البلدين
بشكل تام لتشكيل قوة كبيرة على الصعيد العالمي" !
إن
هذه التصريحات السافرة لم تكن عبثية ، بل كان دافعها الشعور باقتراب انسلال الخيوط
التي تمسكها إيران في العراق ، فقد ظنت أن لا بديل لمن تختاره وبأنه لن يكون إلا مطية
لها وتحت طوعها ، وقد اهتزت هذه الثقة بعد ارتفاع نسبة العنف والتوتر والانقسامات
ضمن تشكيل الحكومة التي حددتها إيران وأعانها عليها مرجعيات الشيعة ضمن وظيفتهم
الأساسية ، كذلك أصابهم الذهول عندما أعلنت المحافظات السنية عن رغبتها في تنفيذ
مشروع الأقاليم الذي كفله الدستور بسبب الانتهاكات المستمرة من قبل الحكومة
الصفوية في العراق، والتي لم تنجح أي جهة عن وقفها حتى بعد إعلان رئيس إيران أحمدي
نجاد بأنه لن يوافق على مشروع الأقاليم ، هكذا بكل وقاحة !.
كان
للدستور الذي فرضته قوى الاحتلال ، ومطالبة أهل السنة بالأقاليم ، وصمودهم أمام
النفسية الشيعية الفارسية المتوارثة لعقدة الثأر المتأصلة في نفوس الشيعة التي
استهدفتهم بسبب دعوى نصرة آل البيت ومظالمهم عوامل ثلاثة جعلتها سبب في بدء إنهاء
الحكم الصفوي في العراق، فقد ولّد هوس الديكتاتورية عند المالكي ودولته ردود فعل
عنيفة حتى من قبل الشيعة ، وما هي إلا صورة لانقلاب السحر على الساحر .
هذه الانعطافة الجديدة في طبيعة مجريات الأحداث
مع الأزمة التي افتعلها المالكي وقضائه المسيّس في قضية نائب الرئيس (طارق الهاشمي)
هو نتيجة لهلع إيران من الانقلاب على الحكومة بعد خروج حماية القوات الأمريكية لها،
حيث تصاعدت المخاوف من قيام حكم سني وتضامن موقف العرب وتركيا لهذا الغرض، وهو ما
أفقد ولاية الفقيه توازنها . كذلك جاءت هذه التطورات متزامنة مع الثورة السورية التي
دفعت إيران للتحرك بشكل علني ؛ تعبيراً عن موقفها الحرج والذي لم يكن للحفاظ على منهجية
اتساعها بنشر أفكارها والمبتدئ بعد غزو العراق، إنما للحفاظ على ولايتها من
الانهيار إن تم هدم المعقل الصفوي في العراق وسوريا والذي بات وشيكاً بإذن الله .
من جانب إيران لم يتوقف تأكيد نفوذها وإصرارها
على ذلك منذ بداية الغزو عبر الزيارات المتبادلة المتكررة لملالي إيران ولكبار
رجال الأحزاب الشيعية في العراق بجميع رتبهم بعد كل أزمة يتعرض لها العراق، وآخرها
زيارة المالكي إلى طهران وعودته بعد أيام للبحث بشأن التهديد الذي تتعرض له ولاية
الفقيه في المنطقة مع تواصلها الإعلامي وتعبيرها عن استعداها لأي عمل عسكري نتيجة
برنامجها النووي من قبل إسرائيل أو أمريكا وتهديدها لدول الخليج والتي ختموها بزيارة
نجاد لجزيرة أبو موسى الإماراتية ثم تصريحه بحماية حدودها معتبرا إياها من ضمن
ولاية الفقيه .
لا يُستبعد أن تكون زيارة المالكي شخصياً تخص البحث
في أمور حساسة جداً ، ولبحث ما يمكن للعراق أن يقدمه من إسناد عسكري ومادي ، وربما
تبرع المالكي بتجنيد إلزامي لشيعة العراق للدفاع عن سادتهم في إيران والذي ربما يواجه
عقبات بعد الانشقاق الكبير الذي سببته حرب المرجعيات العربية الفارسية .
إن
هذه الزيارة لم تهمل بالطبع الأزمة بين تركيا والعراق والتي ازدادت حدة إثر تراشق
التصريحات من قبل الطرفين أي بين رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان وبين نوري
المالكي، الذي واصل تصعيد الموقف بعد عودته من إيران عبر إعلانه عن فتح ملفات ضد
أردوغان، مما يدل على أن إيران عاجزة عن الوقوف ضد تركيا وما على المالكي إلا
المواجهة الإعلامية . لقد أثارت تصريحات أردوغان حفيظة دولة القانون خاصةً وشيعة
العراق عامة عندما قال أن المالكي يتصرف بشكل يسيء إلى المكونات العراقية كلها
ويدفع العراق إلى الخطر وأنه لن يقف متفرجاً على أي استهداف للمكون السني من قبل
الحكومة، عندها تباينت الآراء بين الساسة بشكل طائفي لم يستطع أحد إخفاءه ، وجعلت
التساؤلات تزداد عن ردود الأفعال والفرق بينها وعما سبق من الجانب الإيراني وهو الأكثر
خطورة .
لقد ظهر على الساحة ما لم يكن في الحسبان وهو
الثقل التركي الذي كان حاضراً في أزمات سابقة عند تشكيل الحكومة الحالية ، فقد
استقبلت تركيا مقتدى الصدر وعمار الحكيم وغيرهم من الساسة ومن قادة الأحزاب
الشيعية بعلم وبموافقة إيران وأمريكا بلا شك ، مما يعني أن رئيس الوزراء التركي
فضلاً عن حكومته متابع لحقيقة ما يجري وقد آن الأوان لأن يتحرك بجدية ضد ابتلاع
المنطقة من قبل إيران وسط ضعف عربي مستمر منذ غزو العراق مما ساعد في تقوية وغطرسة
الصفوية، إضافةً لمطامع تركيا التي لا تُنكر .
أما عن الخندق السعودي فقد عرفت إيران معنى إنشاء
قوة درع الجزيرة التي ساعدت على حماية البحرين وباقي دول الخليج بعد أن بات العراق
في تصور الحكام العرب والخليج خاصة بحكم الخسائر، لا يؤثر في المنطقة ولا على
أنظمتهم، وقد كانوا على خطأ فادح يعبر عن قصور الرؤية عند العرب حكام وشعوب ، حيث
لم تتنبه هذه الدول للخطر المقبل من كسر البوابة الشرقية وخطر الزحف الصفوي في أراضيها
بشكل خفي إلا مؤخراً ومتأخراً عندما مستها شرارات زرادشت عبر شيعة الخليج، ولكنها
مع هذا فضلت التعامل داخل حدودها الخليجية بشكل لا يتناسب مع ضرورة المواجهة
الجماعية ضد إيران وأذنابها والتي أضرت بقوة الهوية السنية في المنطقة عندما تم
التخلص من قوة سنة العراق الدرع الأول للأمة، وهكذا انسلت الأفعى السامة إلى عمق
الثورات العربية التي صوروها ربيعاً ولكنه ربيع في جو عاصف من الأتربة لم تنتبه له
الشعوب رغم تحذيرات سنة العراق المتكررة .
إن
هذا الهلع من زعزعة ولاية الفقيه وجعلها على المحك بعد ضربات متتالية من سنة سوريا
وتضحيات سنة العراق التي أخرت المشروع الصفوي قد نظمها الخندق التركي والسعودي عبر
إعلان المواجهة مع إيران صراحةً ، فقد عرفت إيران معنى المعارضة في الخارج من
تجربتها الشخصية وهذا سبب خوفها الحقيقي من تركيا فقد نُشر في وكالات الأنباء عن عضو الائتلاف عدنان السراج وتبعه نائب المالكي خضير الخزاعي من أن أعضاء في الكونغرس الأميركي اجتمعوا مع قيادات بعثية في مدينة اسطنبول
التركية وأمدوها بأموال ضخمة من أجل الإطاحة بحكومة المالكي بانقلاب عسكري ، مضيفاً :
أن هذه القيادات كانت تنتظر الانسحاب الأميركي للإطاحة بالحكومة ، وهذه المخاوف بغض النظر عن صحتها ما هي
إلا إرهاصات عدم نزاهة وشرعية حكمهم في العراق كذلك تفسر " اتهام طارق
الهاشمي بالذات من بين قيادات أهل السنة" فالخوف كل الخوف من إعادة سيناريو
تغيير الحكم الديكتاتوري .
هذه
العنجهية الصفوية سواء أكانت في إيران أو في العراق لن تقف عند حد ولن تقبل بنصح
ولا بشراكة من أي نوع تجعلها في مواجهة خندقين ، إضافة لحقيقة فشل قوتها في لبنان
في حماية قاعدتها التي ظن العالم أنها متينة بوجود حزب الله بقيادة حسن نصر اللات
، فلم يكن له دور فعال في صد الجيش السوري الحر رغم إمكاناته المتواضعة فكيف سيكون
له دور في حماية إيران إن ثار عليها السنة من كل مكان ؟ وهذا يعني حصارها بشكل تام
يؤدي إلى كسر الهلال الشيعي الذي عملت عليه منذ تولي حكم الملالي في إيران بقيادة
الخميني، وذلك أقرب مما تظن وتخشى بإذن الله .
نحن
سنة العراق نعي الخطر الكبير الذي يواجه العراق والذي جره إليه خيانة كل من جاء
على ظهور الدبابات من الغرب والشرق كما أننا لا نؤيد أي تدخل أجنبي في شؤون العراق
، إنما لا يمكن أن نرفض أي تدخل يضمن حمايتنا وحماية أجيالنا ويحافظ على هوية
العراق السنية ويحافظ على عقيدة وثقافة في نية إيران وأذنابها محوها من العراق ،
كما أننا لسنا نجهل نوايا تركيا ومصالحها في العراق والتي يمكن أن تعالج إن استعاد
سنة العراق عافيتهم لتتمكن من الحكم ، ويبقى دور الأكراد في التحدي الخطير الذي
يواجهه العراق ومدى تغليبه المصلحة الوطنية على الحلم الكردي بالانفصال والذي هو
الدافع الأساس وراء التعاون مع السنة العرب ومع تجمعهم في خندق تركي ، فقد أثبتوا
منذ غزو العراق عدم قابليتهم على حماية حدودهم وهم ضمن دولة العراق فكيف إن تم
انفصالهم ؟ فليحذروا ، ولله عاقبة الأمور .
من وجهة نظرنا نرى أن هناك احتمالين يؤديان إما إلى
تدهور خطير في المنطقة أو إصلاح للأمور وفسحة من فرج، فإن باشرت أمريكا بالضغط على
مجلس الأمن باستعمال القوة العسكرية في سوريا فهذا يعني صدام مع إيران وتواجه
المعسكرات الثلاث وستتعدى إلى جر المنطقة بالكامل ، ويعني عدم استقرار جديد في
العراق وانقسام يؤدي إلى المزيد من اعتقالات في صفوف أهل السنة في كل الأحوال
وربما إلى تنفيذ التقسيم ، أما إذا أدت المفاوضات في تركيا إلى تغيير حكومة
المالكي بمن هم أقل تطرفاً على الأقل فربما تسير الأمور إلى حلحلة الأزمة وتمييع دراسة
مشروع الأقاليم في العراق بالنسبة للسنة العرب والذي يصر عليه الأكراد بلا تراجع بغض
النظر عن تطور أزمة الهاشمي ، أما في سوريا والخليج فلن يقف التصعيد إلا بالتخلص
من النفوذ الصفوي، و في كلا الحالتين فالكرة في ملعب إيران وتستطيع أن تحيط نفسها
بلهب من النار لن تخرج منه إلا بانتهاء ولاية الفقيه ، أو اكتفائها بكسر حلم
الهلال الشيعي . والله أعلم .
29 / 4 / 2012